مقدمة
تحتضن الخليل نوعا جديدا من المقاومة اللاعنفية ضد الاستيطان الاسرائيلي من خلال مجموعة من الشباب تسمى "شباب ضد الاستيطان". استطاعت المجموعة وقف التمدد الاستيطاني في قلب الخليل من خلال فعاليات شعبية وقانونية غير عنيفة، وذلك بتحويلهم جزءا من المناطق المعرضة للاستيطان إلى مناطق تعج بالحياة والنشاطات التثقيفية غير الحزبية والمنفتحة على العالم. أنجزت مؤسسة ميزان غير الربحية بالتعاون مع مؤسسة هينرش بل وتجمع شباب ضد الاستيطان ومؤسسة فلسطين الخضراء وعدد كبير من الداعمين الأفراد، أنجزوا مؤخرا الانطلاقة الأولى لمشروع تحويل جميع أسطح البلدة القديمة في الخليل لأسطح منتجة، وذلك في جهد مشترك لتعزيز صمود الأهالي في تلك المنطقة
الخليل مهددة بتميزها الصناعي- الزراعي
ليست مدينة الخليل بالمدينة العادية، فربما تكون المدينة الفلسطينية الوحيدة التي تجمع بين كونها مدينة يعتمد 15% من سكانها على الصناعة، وفي نفس الوقت يعمل 15% من سكانها أيضا في الزراعة (2009) (2) . وتقف كروم العنب وأشجار الزيتون المنتشرة بكثافة في كل ضواحي الخليل وحتى في مركزها، فضلا عن كل تلك المشاغل الصغيرة والمصانع الضخمة في شتى أرجاء الخليل دليلا ساطعا على تميز المدينة في هذين القطاعين.
هذا التميز الإيجابي للمدينة يتيح لها استقلالا صناعيا وزراعيا أكثر من غيرها من المدن الفلسطينية، لكن في المقابل، تتميز الخليل أيضا بشراسة الاستيطان الإسرائيلي الذي يستهدفها. ففي وسط الخليل وفي أطرافها تنتشر مستوطنات تقطع أوصال المدينة وتستهدف ثروتها المائية وأراضيها الزراعية، مثلما تستهدف سكانها الذين يتناقص مع الزمن عدد العاملين منهم في القطاعين الزراعي والصناعي(3) . يأتي ذلك بسبب نقص مياه الزراعة، طبعا لحساب المستوطنات، وأيضا بسبب خلق الاحتلال لظروف تصعب تطور الصناعة والزراعة في المدينة. من الجدير ذكره هنا أن الاحتلال الإسرائيلي يسحب من مناطق الضفة الغربية وخصوصا وادي الأردن حوالي 44 مليون متر مكعب من المياه سنويا، وهو ما يفوق ما يخصصه الاحتلال للسلطة الوطنية الفلسطينية بخمسة ملايين متر مكعب(4). مثلما لا يسمح الاحتلال للفلسطينيين سوى باستخدام 20% من مصادر المياه في الجبال الواقعة في الضفة الغربية.(5)
لذلك اتجهت الخليل في السنوات الأخيرة للاعتماد بشكل متزايد على التجارة، فأصبحت وجهة رئيسية لتسوق الفلسطينيين من الضفة والداخل. وقد تزايد عدد العاملين في القطاع التجاري في الخليل بشكل ملفت، ففي العام 1997 كان عدد العاملين في هذا القطاع 11254 فيما ازداد هذا العدد إلى 17627 في 2007. بالمقابل انخفض عدد العاملين في القطاع الزراعي في الفترة نفسها بشكل خطير من 6414 إلى 1161 عاملا فقط. كذلك، انخفض عدد العاملين في القطاع الصناعي من 13406 عمّال إلى 12012 عاملا في الفترة نفسها (6) . وتشير هذه الأرقام إلى تهديد حقيقي يواجه الأمن الغذائي والاقتصادي لهذه المنطقة المهمة للاقتصاد والصمود الفلسطيني. كما تفاقمت المشكلة في عامي 2008 و2009 بفعل تعرض منطقة جنوب فلسطين إلى موجة جفاف انخفضت فيها نسب هطول الأمطار إلى 20% من المعدل السنوي لهطول الأمطار، مما ساهم في عزوف الكثيرين عن زراعة أراضيهم (7) ، وهو ما لمسناه أيضا من خلال مشاهدات عديدة في مدينة الخليل وما حولها، و أحاديث كثيرة حول هذا الموضوع مع سكان الخليل.
جهاز الحرية لمواجهة معضلات الزراعة والصناعة والاستيطان
إن توفير المياه للزراعة يعد المعضلة الأساسية التي تواجه منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. ويكتسب هذا الأمر أهمية قصوى في الحالة الفلسطينية التي يعد تثبيت سكانها على أرضهم مسألة وجودية خصوصا مع توسع الاستيطان الإسرائيلي ومحاولته تفريغ الأرض من سكانها. جهاز الحرية هو مشروع صناعي وزراعي ومنتج للطاقة في نفس الوقت، يسعى إلى مجابهة تحدي نقص المياه وما يسببه ذلك من عزوف عن الزراعة والصناعة. يبدو المشروع، للوهلة الأولى، مجرد بيت بلاستيكي على سطح بناية٬ وهو كذلك ولكن وظائفه تفوق وظائف البيت البلاستيكي، فهذا البيت منتج للغذاء كونه يعمل بنظام الزراعة المائية- السمكية (الأكوابونكس) الموفر للمياه والأسمدة. في هذا النظام يتم انتاج الأسماك والخضروات من خلال تدوير مياه أحواض السمك والاستفادة من مخلفات السمك كسماد للنباتات، ومن ثم تقوم النباتات بتنقية المياه من الشوائب العالقة فيها ثم ترجع المياه نظيفة لأحواض الأسماك مجددا. بذلك ينتج النظام الخضار والأسماك في آن واحد، ويوفر من كلفة الأسمدة والمياه المستخدمة أيضا.
في الشتاء يتحول البيت البلاستيكي إلى نظام لتجميع مياه الأمطار، فسطحه البلاستيكي مزود بنظام لالتقاط المطر وتخزينه على سطح المنزل. كذلك، فإن جهاز الحرية يزود المنزل بمعدل أربع إلى خمس ساعات من التدفئة المجانية في فصل الشتاء. فالهيكل البلاستيكي يسمح لأشعة الشمس في الشتاء بالدخول إليه بسبب شفافيته مما يتسبب برفع درجة حرارة البيت البلاستيكي، حتي في أيام الشتاء الباردة. من ثم يتم ضخ الهواء الساخن إلى داخل المبنى بواسطة مروحة كهربائية ونظام تحكم بالحرارة ينقل الهواء الساخن من داخل البيت البلاستيكي إلى المنزل. وفي حال عدم وجود إشعاع شمسي في أيام المطر والثلح فإن الجهاز يعمل على عزل السطح حراريا فيقلل من استهلاك الطاقة اللازمة للتدفئة. أما في الصيف فإن جهاز الحرية مزود بنظام لتحويله من بيت بلاستيكي إلى مظلة تحجب 50% فأكثر من أشعة الشمس الواقعة على سطح المنزل. لذا فإنه يوفر في الطاقة اللازمة للتبريد صيفا وكذلك يوفر من كمية المياه المستخدمة للزراعة على السطح. ويعمل الأنبوب الواصل بين البيت البلاستيكي والمنزل على السماح بخروج الهواء الساخن من داخل المنزل، بسبب وقوع الفتحة التي تصل بين البيت البلاستيكي والمنزل في الجزء الأعلى من حائط المنزل، وهو ما يساعد على مزيد من تبريد المنزل أثناء فصل الصيف نتيجة لوجود مجرى هواء طبيعي.
باختصار، هناك خمس وظائف لجهاز الحرية: أ- إنتاج الغذاء بطرق موفرة للمياه والأسمدة؛ ب- إنتاج الطاقة الشمسية لتوفير الدفء أثناء فصل الشتاء؛ ج- جمع مياه الأمطار؛ د-عزل سطح المنزل لتوفير الطاقة؛ هـ- تظليل سطح المنزل صيفا مما يساهم في تبريده.
هذه الوظائف مجتمعة توفر الطاقة والمياه وتزيد من المحصول الزراعي والحيواني، وهذا يتناسب مع كون الخليل مدينة زراعية وصناعية في الآن ذاته. فالأمر الأساسي في مشروع جهاز الحرية هو الاعتماد على المصادر والتقنيات المحلية. فقد تم تعديل كل مشاريع جهاز الحرية في الأردن وسويسرا بحيث أصبح بالإمكان صناعته محليا دون استيراد أي مواد خاصة من خارج البلاد، وأيضا من خلال تدريب كادر محلي قادر على إعادة صناعته وصيانته ونشر فكرته. لذا، فإن جهاز الحرية في الخليل يعطي فرصة صناعية للمشاغل والمصانع المحلية لصناعته وتسويقه محليا. كذلك فإنه يمكن الاستفادة من أنظمة الزراعة المستخدمة في النظام في تطوير الزراعة ليس على أسطح المنازل فحسب من خلال المئات من المشاريع الصغيرة، بل أيضا في الأراضي الزراعية التي هجرت بسبب عدم توفر المياه. تشير التقديرات العلمية إلى قدرة الزراعة المائية السمكية (Aquaponics) على توفير 50% على أقل من المياه بالمقارنة مع طرق الزراعة التقليدية، فضلا عن توفيرها من كلفة الأسمدة، مما يبعث الأمل باستعادة النشاط الزراعي في الخليل رغم النقص المزمن للمياه فيها.
ماذا فعلنا في الخليل؟
على مدار فترة شهرين (من شهر يوليو 2013 إلى سبتمبر 2013) تم إنجاز ما يلي:
ا- التعرف على الوضع الزراعي في فلسطين من خلال زيارات ميدانية إلى مشاريع زراعية من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها؛
ب- التعرف على الوضع الخاص في الخليل وأثر الاستيطان على تفريغ المدينة القديمة من سكانها واستهداف المشاريع الزراعية والإنتاجية من قبل الاحتلال والاستيطان؛
ج- إيجاد موقع ملائم في الخليل للنموذج الأول لجهاز الحرية والاتفاق مع عائلة مهتمة بالزراعة والصناعة للاعتناء بجهاز الحرية وتشغيله؛
د- تكوين شبكة من المؤسسات والأفراد والشركات والمشاغل التي أنجزت النموذج الأول لجهاز الحرية في الخليل والقادرة على إعادة إنتاجه وتطويره وصيانته في المستقبل؛
هـ- تعديل جهاز الحرية بما يتناسب مع مناخ الخليل واحتياجاتها والمصادر المتوفرة للمواد. فقد تمت زيادة المساحة الزراعية في الجهاز وقدرته على تخزين مياه الأمطار وكذلك استخدام مواد بديلة للتظليل الشمسي وتخزين مياه الأمطار بحيث تكون متوفرة في السوق المحلية؛
و- إنتاج فيلم تعريفي عن جهاز الحرية ووظائفه وأهميته لمدينة الخليل وفلسطين والمنطقة بشكل عام. وكذلك فيلم قصير يروج لمشروع جهاز الحرية ويهدف إلى جمع تبرعات لتركيب مزيد من أجهزة الحرية في مدينة الخليل وفلسطين بشكل عام.
الصعوبات التي واجهت المشروع
كان أهم تحدي واجه المشروع هو العراقيل التي تضعها سلطات الاحتلال الاسرائيلي على الحركة في مدينة الخليل. وقد أدى ذلك إلى صعوبة في نقل المواد اللازمة لبناء المشروع. حيث يمنع الاحتلال دخول السيارات الفلسطينية إلى المنطقة مما جعلنا مضطرين لحملها على أيدينا وعلى عربات صغيرة بمساعدة متطوعين من الحي. ورغم صعوبة عملية النقل فإن قوات الاحتلال تقوم علاوة على ذلك بمنع وتعطيل دخول مواد البناء بحجة تفتيشها أو في أحيان كثيرة دون أدنى سبب وذلك بسبب اعتراض متطرفي المستوطنين على حدوث عملية بناء في المنازل الفلسطينية المجاورة لهم. وقد تعرضتُ وفريق العمل إلى عدة محاولات للتضييق على عملنا من قبل المستوطنين، فاتهمونا في إحدى المرات بمحاولة سرقة الأغنام والماعز من مستوطنتهم واستدعوا الجيش والشرطة للتحقيق معنا! ولحسن الحظ لم يتم أخذ ادعاءاتهم على محمل الجد. وفي حادثتين أخريين منفصلتين، قام جنود الاحتلال باقتحام سطح المنزل المقام عليه جهاز الحرية وحاولوا الدخول إليه والعبث به، وقد قام سكان المنزل والنشطاء الأجانب بالضغط عليهم لمغادرة المكان. ومن المعروف أن أسطح المنازل تعد هدفا روتينيا لقوات الاحتلال الاسرائيلي في المدن والقرى الفلسطينية حيث يتمركزون عليها ويعرضون سكان المنزل للرعب من خلال وجودهم المستمر هناك.(8)
مستقبل المشروع
بعد إنجاز النموذج الأول وتشغيله، لمسنا في الخليل أكبر قدر من التفاعل الإيجابي مع المشروع ووظائفه المختلفة. وستكون الخطوة التالية والتحدي القادم هو نشر الفكرة على مستوى واسع في الخليل وفي باقي المناطق الفلسطينية المعرضة للاستيطان.
لهذا الغرض، تم التنسيق والتشاور مع عدد كبير من منظمات المجتمع المدني والجهات الشعبية والرسمية والدولية داخل فلسطين وخارجها للتعريف بالمشروع والترويج له. وسيتم في الأشهر القادمة نشر الفيلم الترويجي الذي تم انتاجه خلال عملية بناء النموذج الأول في الخليل على مستوى واسع وفي مواقع التواصل الاجتماعي والتمويل الجماعي (Crowdfunding) والتي تتيح للأفراد داخل وخارج فلسطين المساهمة في هذا المشروع. وفي حال الحصول على التمويل المطلوب، ستكون الخطوة القادمة تحويل أسطح حي كامل في فلسطين من أسطح عادية إلى أسطح منتجة للطاقة والغذاء والمياه. ندعوكم إلى نشر الفكرة والمساهمة في إنجاح هذا المشروع الذي سيشكل فرقا في حياة الناس تحت الاحتلال ويدعم صمودهم أمام الظروف القاسية.
[gallery:584]
[1] مؤسسة ميزان غير الربحية أسست في عمان - الأردن عام 2011 وقامت حتى اليوم بتنفيذ مشاريع في أكثر من ثماني مواقع في ثلاث دول هي الأردن وسويسرا وفلسطين. لمزيد من المعلومات: www.meezan.cc, and to follow Meezan's news on Facebook: http://www.facebook.com/groups/meezanarabia
[2] ARIJ (2009), 'Hebron City Profile', p.12. http://vprofile.arij.org/hebron/pdfs/Hebron%20City%20profile.pdf (Retrieved: 30.10.2013)
[3] Hilal, R. and Salaymeh, J, (2011), ‘Study of the Economic Opportunities in Hebron Governorate and the South’, p. 20, 21, http://www.tvet-pal.org/sites/default/files/Hebron%20English%20report_0.pdf (Retrieved: 30.10.2013)
[4] For further reading please see: Selby, Jan (2013): Cooperation, Domination, and Colonisation: The Israeli-Palestinian Joint Water Committee. http://sro.sussex.ac.uk/12318/1/Art6-1-1.pdf (retrieved: 11.11.2013)
[5] B’selem (2008), ‘1 July 2008: B'Tselem warns of grave water shortage in the West Bank)’, http://www.btselem.org/water/2008070_acute_water_shortage_in_the_west_bank (Retrieved: 30.10.2013)
[6] Hilal, R. and Salaymeh, J, (2011), ‘Study of the Economic Opportunities in Hebron Governorate and the South’, p. 20, 21, http://www.tvet-pal.org/sites/default/files/Hebron%20English%20report_0.pdf (Retrieved: 30.10.2013)
[7] ARIJ and WFP (2010), ‘Socio-Economic and Food Security Atlas’, p. 68, http://www.arij.org/publications/2010/Chapter%204.pdf (Retrieved: 30.10.2013)
[8] مثال على ذلك في الرابط التالي: http://www.maannews.net/eng/ViewDetails.aspx?ID=633978