"مسعى فلسطين لنيل العضوية في الأمم المتحدة: تقرير من الدولة رقم 194"
تمثل الحملة الوطنية "فلسطين: الدولة رقم 194" شروع القيادة الفلسطينية في مسعاها إلى كسب دعم الرأي العام إلى جانب مشروعها المقدم لنيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. وفي حال تمّ ذلك، ستكون "فلسطين" العضو رقم 194 في مجموعة الأمم والشعوب التي تحتفظ بمقعد في المنظمة الدولية. وبالرغم من ازديان المباني والطرقات ووسائل النقل بالأعلام الفلسطينية، ناهيك عن الفواصل الإذاعية الخاصة بالحدث والإطلالات الإعلامية لسياسيين وفنانين ورجال دين فلسطينيين، شهدت الضفة الغربية خلال الأسابيع الماضية أجواء يشوبها التحفظ والحذر. ففي الوقت الذي بدأت فيه الحلبة الدولية تشهد دبلوماسية محمومة وانطلق الإعلام الدولي يُلقي بتحذيراته من مغبة تصعيد الصراع، بقي الهدوء في رام الله والخليل ونابلس، وهي المدن الأهم الواقعة في كنف السلطة الفلسطينية، سيد الموقف.
وفي حين بدا حصول دعم علني لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية صعب التصور، أقدمت حركة حماس في قطاع غزة على منع الاحتفالات الشعبية المؤيدة لمحمود عباس و "الحملة الوطنية 194". وخلافاً لمظاهرات ضئيلة العدد شهدها الأردن، خيّم الصمت على فلسطينيي الشتات. حتى أن العديد ممن اعتادوا تصويب سهام النقد نحو السلطة حذّروا من تأثيرات سلبية محتملة للطلب الفلسطيني للحصول على عضوية الأمم المتحدة الكاملة. فمن وجهة نظرهم، لا تكمن التأثيرات السلبية المترتبة على تقديم مثل هذا الطلب في صميم الصدام السياسي مع المعارضين الدوليين الصريحين للطلب الفلسطيني وفي مقدمتهم إسرائيل والولايات المتحدة، بقدر تخوفهم من أن يؤدي ذلك إلى الخلط ما بين صلاحيات السلطة الفلسطينية وتلك التي تختص بها منظمة التحرير الفلسطينية.
وخلفاً لياسر عرفات، يتبوأ محمود عباس في آن واحد منصبي رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، تلك السلطة التي تدير ما يقارب 40 % من مساحة الضفة الغربية. ففي رسالة مفتوحة كان العديد من المثقفين الفلسطينيين المعروفين قد حذّروا في نهاية آب من مغبة إضعاف صلاحيات م. ت. ف.، مانحين بذلك صوتاً لتلك المخاوف التي تنتاب العامة من أن يؤدي الأمر في نهاية المطاف إلى تظهير السلطة الوطنية ممثلة لدولة افتراضية ضمن حدود 1967(الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة والقدس الشرقية)، وتحول م ت ف، واقعاً، إلى ممثل لمصالح اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المجاورة ليس إلا.
إلا أن النقد في جوهره وصميمه، ظاهراً كان أم باطناً، يكمن في عدم امتلاك محمود عباس إستراتيجية سياسية، خاصة في ضوء فشل عملية التفاوض، ورغبته في صرف الأنظار عن ذلك من خلال المشروع المقدم إلى الأمم المتحدة. ولم تغلق بورصة التوقعات والتكهنات أبوابها حتى في أيلول، حيث توقع العديد من المراقبين إما سحباً كلياً للمشروع أو تخفبفاً من حدة مضمونه. وفي مقابلة معه عشية سفره إلى نيويورك، تحدث محمود عباس عن أعباء عصية على الخيال ينوء تحتها. وكما لو كان ذلك ليس بكافٍ، فقد سرت تكهنات تحمل طابع الوعيد بوقف الولايات المتحدة لدعمها المادي للسلطة الفلسطينية، في حين بادرت فرنسا إلى تقديم اقتراح يقضي بتخفيض سقف الطلب من عضوية كاملة إلى عضوية بصفة مراقب ولكن مضخمة بعض الشيء.
وضع عباس والسلطة الوطنية آخذ في التعزز
لم يترك افتقار الدعوة إلى العودة إلى المفاوضات الثنائية مع إسرائيل لعرض ذي مضمون جوهري أية خيارات أخرى أمام عباس، وهو ما حرص على إبرازه في كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة؛ فالسلطة الوطنية كانت قد استجابت آنفاً لكل متطلبات وشروط الرباعية الدولية والمنظمات الدولية: "لقد قمنا في السنتين الأخيرتين، وبالرغم من حقنا الذي لا شبهة فيه في تقرير المصير، بإخضاع أنفسنا لامتحان حول أهليتنا في دولة". أما نتائج هذا الامتحان، فقد قيّمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والأمم المتحدة على أساس كونها "قصة نجاح تستحق الاحترام". وقد تمثّل الامتحان في تنفيذ خطة رئيس وزراء السلطة الوطنية سلام فياض التي وضعها عام 2009 تحت عنوان "فلسطين: إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة" وحددت برنامجاً لبناء مؤسسات دولة من المفترض أن يقود إليها التطبيق العملي لهذا البرنامج مع حلول آب 2011.
وقد لبى هذا البرنامج تصورات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والحكومات الأوروبية فيما يتعلق بالحكم السليم والشفافية المالية وتطبيق احتكار القوة (المقصود باحتكار القوة في القانون العمومي/ الدولي المتعلق بالدولة بصفتها العامة/ الحاكمة اقتصار الشرعية على أجهزة الدولة فقط من حيث استخدام أو تشريع القوة البدنية أو المادية. وهو مبدأ تقوم عليه كل الدول الحديثة ويعتبر أساساً لعمل الدولة الدستورية- المترجم). ولقد لقي ذلك ترحيباً عالميا واسعاً واعتُمِدَ أساساً يقوم عليه التعاون مع السلطة الوطنية. وهكذا كان في جعبة السلطة الوطنية ما تقدمه إلى المجتمع الدولي، خاصة بعد استيلاء حركة حماس على مقاليد الحكم في قطاع غزة. فقد عمدت السلطة الوطنية خلال السنتين الماضيتين إلى إجراء إصلاحات في إداراتها ووزاراتها وتقليل الاعتماد على التمويل الأجنبي وزيادة الشعور بالطمأنينة والأمن العام بين مواطنيها. كما قامت في الوقت ذاته بضمان أمن السكان الإسرائيليين، إلى درجة أن الجانب الإسرائيلي أقرّ بذلك علناً. ومع ذلك فهذا ليس بيت القصيد، خاصة وأن الخطة قد وضعت أساساً من أجل هدف محدّد، ألا وهو خلق الظروف المناسبة لإقامة الدولة وبضمانات دوليةً. لقد عبر سلام فياض مرارا وتكرارا عن أن برنامجه لا يمكنه بلوغ ما توانى اتفاق أوسلو عن بلوغه، إلا وهو الإقرار بالحق في إقامة دولة ذاتية خاصة بالفلسطينيين، إذ أن مثل ذلك لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال قرار ملزم يصدر عن مجلس الأمن ويتمّ بموجبه نقل مسؤولية إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي "لفلسطين" إلى المجتمع الدولي.
وبطلبه هذا المقدم إلى مجلس الأمن، يُطالب محمود عباس بالحصول على رد فعل إيجابيّ على اجتياز امتحان الأهلية بنجاح. كما كانت كلمته موجهة إلى الجمهور الفلسطيني أيضاً، والذي استقبلها في نهاية الأمر، رغم كل الحذر والارتياب، بحماس وحمية؛ فقد شهد ميدان الساعة في رام الله احتشاد الآلاف وقد تجمهروا لسماع كلمته على الهواء مباشرة مرددين الأناشيد والهتافات المناصرة له وللمشروع. أما عودته إلى رام الله فكانت أشبه بمهرجان شعبي. في حين سارع هاني المصري، محرر عمود في العديد من الصحف الفلسطينية، إلى وصفه ب "عباس الجديد"، زعيم سياسي يمتلك الجرأة، في ضوء تعنت نتانياهو ومعسكره السياسي، على التحدي والمغامرة بدعم الولايات المتحدة للسلطة الوطنية، في مقابل "عباس القديم" الذي كان يمكن أن يخضع للضغوط الدولية كما حصل عند موافقته على تأجيل نقاش الأمم المتحدة لتقرير جولدستون عام 2009. وقفة عباس الجديدة هذه أكسبته وبشكل جليّ تعاطفاً جديداً على المستويين الفلسطيني والإقليمي. المهم الآن هو خطواته اللاحقة.
وبمعزل عما سيسفر عنه قرار مجلس الأمن الخاص بطلب العضوية، صدر عن م ت ف تلميحات مفادها، أنها تقبل بجدول زمني لمفاوضات جديدة تحدده الرباعية الدولية فقط في حال ضمان وقف الاستيطان والاستناد إلى القرارات الدولية كمرجعية للمفاوضات، الأمر الذي يعني وبصريح العبارة: تطبيق المقاييس المعترف بها دولياً لحل النزاع، وهو الأمر الذي ترفضه حكومة نتانياهو. مدفوعاً بالتعاطف الوطني والدولي المتزايد، سيسعى عباس غالباً إلى بعث الحياة من جديد في المصالحة الفلسطينية المتوقفة منذ حزيران. مثل هذا الشيء سيزيد من شعبيته محلياً، كما سيطلق يد السلطة الفلسطينية.
إستراتيجية تعميق التناقضات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
عبر كلا الطرفين (فتح وحماس) في حزيران عن رغبتهما بانتظار ما سيفضي إليه الطلب المقدم إلى مجلس الأمن، بعد أن فشلا في الاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية. وربما حبلت هذه الخطوة بفرصة لتعميق التناقضات بين المواقف الأمريكية والأوروبية؛ ففي حين جوبه اتفاق المصالحة الفلسطيني العائد إلى نيسان 2011 بالرفض القاطع من قبل الإدارة الأمريكية، لم يُسارع الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من الكثير من التحفظات عليه، إلى رفضه. ربما مثل ذلك، من وجهة نظر فلسطينية، إستراتيجية ناجحة، حتى ولو كان من غير المتوقع أن يُقدِّم الاتحاد الأوروبي نفسه وسيطاً في الصراع، وذلك على خلفية افتقاره إلى سياسة خارجية موحدة. ومع ذلك فإن دعماً أوروبياً متزايداً سيزيد من فرص تدويل الصراع على قاعدة حل الدولتين. كذلك يمكن لمحمود عباس بعد إطلالته الناجحة في الأمم المتحدة أن يضمن تأييداً أقوى على المستوى الإقليمي.
لا يمكن التنبؤ في الوقت الراهن بالتأثيرات المترتبة على هذه الإستراتيجية. واقع الأمر أن الظروف المتغيرة في الدول العربية ستترك آثارها على التطور المستقبلي للصراع ومحاولات التوصل إلى حل له. فاستخدام أمريكا بمفردها لحق النقض "الفيتو" والدعم غير المباشر الذي سيوفره (لتعنّت نتنياهو؟؟؟؟)، لن يكون ذا أثر حسن، خاصة في ضوء التعاطف المتزايد مع الفلسطينيين، علماً بأنه سيزيد من الاستقطاب الموجود أصلاً في المنطقة. وتبقى مبادرات تتضمن ضمانات لتطبيق حل قائم على أساس دولتين أكثر أهمية من جدول زمني للتفاوض من أجل التفاوض فقط.
يوآخيم باول - مؤسسة هينرش بل