يرتبط التراث الثقافي الفلسطيني ارتباطًا جوهريًا بالبيئة الطبيعية. عاش الفلسطينيون في وئام مع الطبيعة لقرون عديدة، مستفيدين مما قدموه من المواد الخام وإنتاج هوية مبدعة شكلت البلدات والقرى وحولت العديد من المناطق الفلسطينية إلى مراكز لإنتاج الحرف اليدوية وغيرها من الأنشطة الاقتصادية. فيما شجع وجود الوجهات الدينية السياحية في العديد من البلدات الفلسطينية ازدهار صناعة بعض الحرف اليدوية (مثل المنحوتات الخشبية في بيت لحم، والفخار الأرمني، وزجاج الخليل، وما الى ذلك ...).
تعتمد ممارساتنا التراثية والثقافية، بدءاً من الحرف اليدوية ووصولا إلى الفنون، على مواد خام تنتج "كمخلفات" لمنتجات أخرى. من الأمثلة على ذلك، قصاصات أشجار الزيتون وقش القمح وصوف الأغنام والجلود. لم يتم اعتبار هذه المنتجات تقليديا على أنها مخلفات للنشاطات الاقتصادية التي اعتادت المجتمعات تنفيذها، نظرًا لأن جميع العناصر الأساسية كان لها دور فعال وكلن يعاد استخدامها في ممارسات وحرف أخرى. تسعى هذه النسخة من الدليل إلى زيادة إبراز مفهوم إعادة الاستخدام لا باعتباره مجرد مبرر لمواصلة استهلاك "خالي من المواد المهدرة"، بل ولتقدير كيفية استخدام الحرف اليدوية التقليدية بشكل كبير في الأنشطة الزراعية وغيرها من الأنشطة لإنتاج سلع عملية وجمالية. علاوة على ذلك، فقد طور المنتجون والمبادرات المجتمعية الجديدة المفهوم إلى ما هو ابعد من ذلك، من خلال تحدي أنماط الاستهلاك الحالية غير المستدامة عن طريق تشجيع العمل المجتمعي والمنتجات التي لها طباع بيئية وأخلاقية.
كان للحرف اليدوية التقليدية في فلسطين نصيبها من الانتعاش والانتكاس ثم الانقراض، وهذا يتوقف على الظروف التجارية. أعدت الجمعية الفلسطينية للتبادل الثقافي (المدرجة أيضًا في قسم متاجرنا) قاعدة بيانات تحتوي على معلومات حول تاريخ وحالة كل حرفة يدوية. ومن بين الحرف التي تمت إعادة إحياؤها، الفخار ومنحوتات خشب الزيتون والتطريز وصناعة صابون زيت الزيتون ونفخ الزجاج. والسبب وراء ظهور هذه الحرف هو قدرتها على دخول السوق المتسم بالعولمة كحرفة سياحية. أما الأنواع المهددة بالانقراض فهي حرفة السلال المصنوعة من القش وأغصان الزيتون ونسيج الصوف ودباغة جلود الاغنام التقليدية. فقدت هذه الحرف اليدوية أهميتها بالنسبة للفلسطيني العادي، في ظل إدخال العديد من الأصناف والبضائع من السلع المستوردة من الصين، والتي حلت بسرعة محلها وتوقف تقريبا إنتاج هذه المنتجات المحلية.
تتعرض صناعة الحرف اليدوية الفلسطينية لتهديد مستمر من مختلف الجهات الفاعلة. ويلعب الاحتلال الإسرائيلي الدور الأكثر فعالية في تقليص الصناعة، حيث إن غمر السوق الفلسطيني بمواد متماثلة بتكلفة أقل فضلا عن توافرها قد دفع العديد من الحرفيين إلى التركيز على الحرف اليدوية التقليدية. كان الاهتمام والاستثمار في تطوير الحرف اليدوية المحلية من قبل المؤسسات الحكومية الفلسطينية عند أدنى مستوياته، في ظل قيام العديد من المنظمات غير الحكومية بدور فعال وتمكين المنتجين المحليين من خلال ورش العمل والدورات التدريبية المختلفة. المنافسة بين محلات بيع التذكارات بأسعار أقل دفعت الحرفيين المحليين لترك الحرفة، وفي أسوأ الحالات تسببت لهم في خسارة المال ووقف تجارتهم تماما.
إن للمنتجين الصغار والشركات التي تديرها العائلات قيمة مضافة تتمثل في كونها فريدة من نوعها، وتخدم نوعًا مختلفًا من العملاء، وتهتم بالتفاصيل والجودة ونوعية المنتج النهائي. أثرت الواردات الرخيصة على فلسطين منذ الحكم العثماني، وبالتالي فهي ليست ظاهرة جديدة. لقد غيرت العولمة والأسواق الحرة وجهات نظر الناس حول المنتجات، وغيرت تفضيلاتهم من التركيز على الجودة العالية والمتانة إلى منتجات رخيصة تستعمل لمرة واحدة. وقد أثر ذلك على صناعة الحرف اليدوية أيضًا، والتي عانت زمنا من تناقص الجودة، وإدخال المواد التركيبية والبلاستيكية في إنتاج الحرف اليدوية التقليدية (مثل سلال النسيج ذات الخيوط البلاستيكية). ومع ذلك، هناك اتجاه مشجع وجديد، حيث يقوم الناس بشراء المنتجات التقليدية لأنهم يهتمون بأصالتها وبالعناصر الطبيعية التقليدية فيها.
هناك اتجاه مشجع آخر يتمثل في تركيز منتجي الحرف اليدوية على تعزيز الروابط بين الأجيال عندما يتعلق الأمر بإنتاج الحرف اليدوية. تم تحفيز بعض المنتجين في بادئ الأمر للحفاظ على حرفة معينة بسبب إدراكهم أن آخر المنتجين لهذه الحرفة قد توقف عن العمل أو وافته المنية. وقد وجد آخرون أنه من المقلق رؤية فجوة كبيرة بين الأجيال الأكبر سناً وأحفادهم عندما يتعلق الأمر بمشاركة حكايات وتقاليد المصنوعات اليدوية. قادت هذه المخاوف العديد من قادة المجتمع كما ورد في هذا الدليل لزراعة بذور التغيير ومشاهدة مبادراتهم تنمو عضويا وتربط الأجيال والمجموعات المختلفة والاهتمامات معا.
يأتي الأمل من تحت الركام، كما علمتنا غزة دائما. في أعقاب هجوم 2014 على القطاع، وجد المبتكرون طريقة لقلب الأنقاض والركام المتبقي من منازلهم وأثمن مقتنياتهم، إلى مواد حية من جديد. على سبيل المثال، قاموا بإعادة تدوير الأنقاض في مخيم النصيرات وتحويلها إلى طوب جديد للبناء، والذي أصبح بديلاً لمواد البناء الأساسية التي يمنع الحصار الإسرائيلي دخولها إلى غزة. علاوة على ذلك، شهدت مشاريع استغلال الطاقة الشمسية باستخدام المواد المحلية المتاحة ارتفاعا ملحوظا، ويعمل في هذا المجال مهندسون من جامعات مختلفة. حتى السيارات الكهربائية، تم إنتاجها في عام 2008، بهدف تقليل الاعتماد على الوقود الذي يشح دخوله إلى غزة بسبب الحصار الذي تواصل إسرائيل فرضه على الوقود.
يسعدنا أن نجد بصيص أمل في المشاريع الثلاثة التي تمكنا من التواصل معها، وهي مشروع أطفالنا، ومشروع سلافة ومشروع الصواف ، إذ أظهرت ثلاثتها التصميم والالتزام بالانضمام إلينا في هذا الدليل .
من خلال خبرتنا في إعداد هذا الدليل، يمكننا القول بثقة أن قطاع الحرف اليدوية في فلسطين يمر بطفرة إبداعية غير مسبوقة. دخل المصممون والفنانون والمهندسون ومنظمو المجتمع إلى الميدان، وباتو يجلبون معهم إبداعات مميزة إلى قطاع عانى لفترة طويلة من التقليدية والتكرار والنمطية، ومن عدم تلاؤمه مع احتياجات العصر. تشمل هذه الطبعة من الدليل العديد من المنتجين الجدد والواعدين الذين يقومون بإحداث تغيير خلاق في التقاليد المحلية وهيئة وطريقة تقديم جديدة للحرف اليدوية المحلية. من نفخ الزجاج إلى الخزف، ومن خشب الزيتون إلى التطريز، تتطور الحرف اليدوية الفلسطينية اليوم عن شكلها التقليدي، بفضل الطاقات الإبداعية التي يضخها المنضمون الجدد والآتين من مختلف المجالات والاختصاصات. مرة أخرى، يجدر الذكر أننا قد صادفنا العديد من المنتجين والمنتجات الجديدة ولكن نظرًا لأن هذا الدليل لا يمكن أن يشمل كافة المنتجين، فقد ركزنا على المنتجين الراسخين وكذلك المنتجين الجدد والمنتجين الشباب.