هل تُصلح الكورونا ما أفسدته البشرية؟

السلطات الأردنية تقوم بتعقيم السيارات المارة في شوارع عمان كجزء من جهودها لمواجة جائحة كورونا

يعتقد البعض أنّ جائحة فيروس كورونا المستجد، قللت من غازات الدفيئة المسببة للتغير المناخي، وهذا الاعتقاد غير دقيق، حيث أنّ الجائحة قللت من انبعاث هذه الغازات بشكل مؤقت، ولكن بضعة أشهر لن تقوم بعكس ما تسبب به النشاط الإنساني منذ الثورة الصناعية ليومنا الحالي. ويتوجب العمل على إيجاد حلول مستدامة للتغير المناخي .

تشغل اليوم أخبار جائحة فيروس كورونا المستجد وسائل الإعلام، فتارة نسمع عن قصص مناعة القطيع، وتارة أخرى عن لقاح محتمل، وعن العدد المتتالي للوفيات والمصابين والبلدان المنكوبة، فما يحدث اليوم لم يشهده العصر الحديث منذ أكثر من قرن. ولكن ماذا عن التغير المناخي؟ فهناك ملايين الوفيات سببها تلوث الهواء من الصناعات التي سببت التغير المناخي والكوارث الطبيعية، وزيادة حدة الطقس، والفيضانات والأعاصير، وجفاف وشح المياه وظواهر متتالية لم تشهدها البشرية من قبل؛ لأنّنا وببساطة ساهمنا في صنعها منذ بدء الثورة الصناعية.

وفي الفترة الأخيرة، تم تداول بعض الأخبار حول تنفس الأرض من جديد، وأنّ التغير المناخي وثقب الأوزون قد خفت حدة تدهورهما، ولكن للأسف المعلومات مغلوطة وغير واضحة. فمنذ بداية الجائحة قلّ تلوث الهواء بشكل كبير وهو أمر طبيعي، فقد توقفت المركبات عن التنقل والمصانع عن العمل ومحطات التوليد التي تعمل على الفحم الحجري والمصانع العاملة عليه، وبالتالي قلت نسبة أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد النيتروجين، الغازين الرئيسيين المتسببين بتلوث الهواء. وهناك أيضاً دراسات حول علاقة تلوث الهواء ونسبة الوفاة بفيروس كورونا المستجد، ومنها دراسة من جامعة هارفارد ربطت التعرض المستمر لتلوث الهواء مع زيادة نسبة الوفاة بسبب الفيروس [1]. وقد تم تداول أخبار عن انخفاض غازات الدفيئة وثاني أكسيد الكربون وأنّ التغير المناخي سوف تقل حدته، ولكن للأسف هذا الكلام غير دقيق.

ونتجت غازات الدفيئة منذ الثورة الصناعية، أي منذ عام 1760، بسبب حرق الوقود الأحفوري بأشكاله المختلفة من خلال الصناعات المتعددة، وزادت ممارسات الإنسان تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي. وتسبب الحظر الذي قامت به بعض الدول في تقليل الانبعاثات لبضعة أشهر، ولكن هذا الانخفاض لا يُقارن بعقود من انبعاثات غازات الدفيئة بالغلاف الجوي ولن يقوم بعكس تبعات الثورة الصناعية.

 ورغم اعتقاد البعض بأنّ نسب انبعاث غازات الدفيئة انخفضت خلال جائحة الكورونا، يوضح الرسم أدناه أنّه ومنذ بداية ظهور الفيروس استمرت انبعاثات غازات الدفيئة بالصعود رغم اجراءات الحظر، ولغاية اليوم يزيد تركيز هذه الغازات بالغلاف الجوي عن 414.68 جزء من المليون، علماً أنّ الحد الأعلى الآمن للإنسان هو 350  جزء من المليون. [2]

 
   

 

Keeling Curve 6 months record

ولكن على الرغم مما سبق ذكره، هناك دروس عديدة يمكننا تعلمها من محاربة جائحة الكورونا لمحاربة التغير المناخي، وما يلي خمسة منها :

مع الإرادة السياسية كل شيء ممكن: يعقد العالم سنوياً اجتماعات عدة حول التغير المناخي والتي تنتهي بمؤتمر الأطراف السنوي [3] (COP) كجزء من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن المناخ (UNFCCC). وتتبادل خلاله الدول قوى المد والجزر، ويستمتع لوبي الوقود الأحفوري بفرض سيطرته من خلال الدول والإعلام وأيضا القطاعات الخاصة والممولة. لم يحقق مؤتمر الأطراف الاخير في مدريد[4]- أسبانيا الطموحات وذلك لعدم أخذ أصوات الدول الأكثر هشاشة بعين الاعتبار، والذي أضعف اتفاقية باريس؛ الاتفاقية التاريخية في عام 2015  للحد من ارتفاع درجة الحرارة بدرجة ونصف عمّا قبل الثورة الصناعية [5]. لقد استنفذنا خمسة وعشرون عاماً من الاجتماعات ومؤتمرات الأطراف للاتفاق على تقليل الانبعاثات، سواء بالتخفيف أو بالتكيف. خمسة وعشرون عاماً من التخاذل وعدم أخذ الموضوع بجدية، وقد تأجل المؤتمر القادم المُزمع عقده بالمملكة المتحدة بسبب الجائحة [6] وهذا تأخير آخر لتطبيق اتفاقية باريس وحجة أخرى للدول لتماطل من أجل العمل على الحد من التغير المناخي. ولكن بالمقابل ولمعالجة هذه الجائحة، اتخذت الدول خطوات جدية بإيقاف التصنيع والطيران وإنتاج الوقود الأحفوري بسرعة فائقة، وإن كان التوقف مؤقتاً إلا أنّ هذا الفيروس كشف لنا أنّ كل شيء ممكن وأنّنا معاً نستطيع التغيير، وإذا كان هناك إرادة سياسية جدية لتطبيق اتفاقية باريس، فعلينا أن نُبقي 80% من الوقود الأحفوري في باطن الأرض [7].

نستطيع العمل افتراضياً: اجتمع قادة العالم الممثلون بمجموعة العشرين افتراضياً وهذه سابقة [8]، فهل حقاً نحتاج للسفر طوال الوقت لعقد اجتماعات؟ وهل يجب علينا الذهاب إلى المكاتب يومياً؟ العديد من الشركات كشركة التدوين المصغر "تويتر" [9] قررت أن تستثمر أكثر بالعمل المرن والعمل عن بعد؛ لما له من تأثير عميق في تقليل المواصلات والوقت الضائع وزيادة الإنتاجية والحفاظ على صحة الموظفين، بعد التعلم من تجربة فيروس كورونا المستجد. وظهرت اليوم العديد من الأفكار حول العمل المرن والافتراضي والتي قام العالم بفرضها بسبب الوباء، والتي يمكن أن تحسّن من كفاءة العمل وتقلل نسبة غازات الدفيئة عند الرجوع للوضع الطبيعي. وهذه التجارب والأفكار قامت بإعادة تحديد علاقة الإنسان ببيئته المحيطة حيث العمل بالمكاتب الإسمنتية أفقد الإنسان علاقته بالبيئة بشكل كبير.

الطاقة المتجددة هي المستقبل : على الرغم من أنّ أسعار الوقود الأحفوري الحالية هبطت، إلاّ أنّ سوق النفط أثبت أنّه غير ثابت، وأنّ اقتصاد الدول لا يجب أن يعتمد عليه لأنّه متغير، وخصوصاً خلال الازمات، فقد هوت الأسعار بشكل كبير، وهذا يعطينا دليلاً واضحاً أّنّه علينا الاعتماد على طاقة مستدامة وعادلة لا تتغير تبعاً للأوضاع المحيطة وأن تكون متواجدة باستمرار.

الإعلام هو الحليف : الكوارث التي تَسبب بها حرق الوقود الأحفوري تحديداً والتغير المناخي، كلفت العالم المليارات وسوف تكلفه اكثر. وبحسب دراسات قامت بها منظمة الصحة العالمية وبإحصائية متفائلة، فإنّ الخسائر البشرية سوف تزيد بمعدل  250,000 سنوياً خلال العقد القادم، إضافة لوصول ما يقارب 100 مليون شخص لمستوى الفقر الشديد بحلول عام 2030 [10]. كل هذه الإحصاءات لم تجبر الحكومات على التعاطي مع التغير المناخي بشكل جديّ. فالحلول الآن أصبحت واردة مع انتشار فيروس كورونا، فهل كنا بانتظارهكذا كارثة للتحرك بدلا من التحرك لوقف حرائق استراليا او أعاصير الفلبين؟ الحلول تتمثل بتقليل الطيران وحركة السفن والتركيز على الإنتاج المحلي وتقوية المجتمعات المحلية ليصبح الاقتصاد المحلي قوياً وأقل اعتماداً على الاستيراد، إضافة إلى تخفيف النمط الاستهلاكي. حان الوقت الآن لتغيير خطاب التغير المناخي لجعله أكثر حزماً ووضوحاً من قبل، ولتكثيف الإعلام حوله. فالتغير المناخي حاصل وخسائره فادحة، وعلى المختصين من جميع المجالات التعاون مع الإعلام لجعله قضية تتحدث بها الشعوب، حيث أثبتت جائحة كورونا أنّ الإعلام يمكنه التأثير على الناس بشكل كبير وجذب اهتمامهم.

معاً نستطيع : قوة القرار والعمل الحقيقي تنبثق من المجموعات الواعية التي تتكاتف معاً وتتبنى قضايا إنسانية واجتماعية. هذا ما نراه اليوم من تكاتف النسيج المجتمعي وقوته وتأثيره، ومبادرات رائعة ودعم للمجتمعات وتكافل كبير في ظل الجائحة لم نره من قبل، وهذا ينبع من أنّ الجائحة يسهل تقييمها والإحساس بها .

إنّ الجائحة الحالية سببها فيروس، وأعراضها واضحة، ولكنّ التغير المناخي أسبابه متعددة وتبعاته كبيرة جداً، وإذا استمرت الجائحة سوف تعاني المجتمعات الأكثر هشاشة من الجائحة ومن تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية، إضافة للتغير المناخي وتبعاته ايضاً.

وما علينا فعله اليوم هو النظر لأبعد من الوضع الحالي والتفكير بحلول مستدامة تحترم التنوع الحيوي وتمنع التعدي عليه، وتسمح بالتطور المستدام الذي يأخذ بعين الاعتبار الإنسان والبيئة معاً. إنّ ما يقرب من 75 ٪ من الأمراض المعدية الناشئة حديثاً هي أمراض حيوانية المنشأ، تنتج عن العديد من العوامل البشرية والجينية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والمناخية[11].  ولهذا السبب علينا التوقف والنظر بعلاقة الإنسان ببيئته والكائنات الأخرى لنوقف توغل الفيروسات ولنعيش بتوازن على الكوكب الذي نقوم باستنزافه بشكل يومي.

 

صفاء الجيوسي