آفاق الطاقة النووية في الأردن -

وقت القراءة: %count دقائق

PDF

البروفيسور ستيف ثوماس - جامعة غرين ويتش، لندن

آفاق الطاقة النووية في الأردن

البروفيسور ستيف ثوماس/ مدير البحث في كلية التجارة، جامعة غرين ويتش، لندن.

November 29, 2012

تثير مخططات الأردن بناء محطّة طاقة نووية قضايا جدّية من حيث التكنولوجيا المختارة، واقتصاد المحطّات النووية، وتوفّر الدعم وجلب الشركاء الأجانب لامتلاك وتسيير المحطة.

تاريخ البرنامج النووي
تعود محاولات بناء محطات الطاقة النووية في الأردن إلى عام 2008 حين وقّعَت حكومة الأردن اتفاقيات حكومية مع فرنسا لبناء القدرة النووية في الأردن وأيضا لاستغلال مصادر اليورانيوم فيه. قائمة الدول المزوّدة المحتملة الأربع، كوريا وروسيا وفرنسا وكندا، قُلّصت على التوالي لتقتصر  في النهاية على فرنسا بتصميم آتميا 1 (Atmea 1) الذي هو نتاج شراكة ما بين شركة أريفا (Areva) الفرنسية وميتسوبيشي ( Mitsubishi) اليابانية؛ وتصميمين آخرين هما آتميا وإيه إي إس-92 (AES-92) المقدمين من شركة أتومستروي إكسبورت (Atomstroyexport) الروسية. في البداية، كان الموقع المختار لإقامة المحطّة قرب العقبة، لكن نُقِل إلى موقع المجدل وهو أقرب إلى عمّان. في السنوات الأربع الأولى التي تلت التوقيع الأولي للاتفاقية، تغيّر تاريخ الإنجاز المتوقع من عام 2015 إلى عام 2020. في أيار/مايو 2012، قرّر البرلمان الأردني تعليق العمل في البرنامج النووري وجهود استغلال اليورانيوم إلى حين الانتهاء من دراسة الجدوى الاقتصادية وتقييمات الأثر البيئي. لكن يبدو أنّ لهذا القرار بعض التأثير. ففي أيلول/سبتمبر 2012، انسحبت شركة أريفا تاركة الاهتمام باستغلال مخزون الأردن من اليورانيوم، مقلّدة بذلك شركة آر تي زي (RTZ).
أدّت كارثة فوكوشيما إلى التزام واضح من جانب هيئة الطاقة الذرية الأردنية بأن يكون أي مفاعل يتمّ بناؤه مطابقًا لمقاييس السلامة الحديثة في الدول المتطورة، وأن يكون قد خضع لتقييم سلامة شامل من قبل هيئة لتنظيم السلامة مستقلّة وموثوقة وذات خبرة.

التكنولوجيا
إنّ قرار الالتزام بمقاييس السلامة الغربية يعني أن لا مفرّ أمام الأردن سوى أن تختار مفاعلًا غير مجرّب. فواقع الأمر أنّه إلى اليوم، لم يتمّ تشغيل أيّ مفاعل وُضِع تصميمه بعد كارثة تشيرنوبل. ومن بين كلّ المفاعلات التي تمّ عرضها، لا يوجد سوى مفاعلان لهما تجربة إنشائية (أي تمّ بناؤهما فعليًا) هما مفاعل أريفا إي بي آر (Areva EPR)  ومفاعل ويستينغهاوس إيه بي 1000 (Westinghouse AP1000). لكن الأردن لا تأخذ بالاعتبار أيًا من هذين التصميمين. التجربة الوحيدة في الغرب هي تجربة مع مفاعل إي بي آر والذي يتمّ تنفيذه حاليًا في كلّ من فنلندا (أولكيليوتو) وفرنسا (فلامانفيل). لكن هذه التجربة باتت تجربة سيئة جدًا في الحالتين، حيث تأخر إنجاز المشروعين من 4-5 سنوات، وتجاوزت المصاريف الميزانية المرصودة بنحو 100%.
أمّا تصميم آتميل 1 فيُعتبر الأقل تطورًا بين الاثنين، لكنّ تصاميمه التفصيلية لم توضع بعد. وإلى حين الانتهاء من وضعها، فلن يكون بالإمكان إجراء تقييم السلامة. وبناء على الخبرة العملية الحديثة من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، فإن عمليات تقييم السلامة تحتاج إلى ما يربو على 6 سنوات. وكونه لا يوجد زبون آخر، فليس واضحًا ما إذا كانت أريفا متسعدةً للقيام بوضع التصاميم التفصيلية، كما ليس واضحا من هي الهيئة التنظيمية التي ستجري تقييم السلامة.
يجري حاليا في الهند بناء إيه إي إس-92 (AES-92)، حيث استغرق بناء المفاعلين اللذين شارفا على الإنتهاء ما يزيد عن عشر سنوات. لكن هذا التصميم لم يُطلَب في أيّ مكان آخر، ولا حتى في روسيا - الدولة المصنّعة له. وهو، شأنه شأن تصميم أتميا 1، لم يخضع لمراجعة السلامة من قبل أي هيئة تنظيمية غربية، بل إنّ من الصعوبة بمكان رؤية لماذا ستقوم مثل هكذا هيئة بإجراء المراجعة، وبالتالي فإنه من غير الواضح ما هي التحسينات المطلوبة لجعل التصميم متماشيا مع المعايير الغربية الحديثة.
لكن، وبغض النظر عن التصميم الذي تمّ اختياره، فلا يزال هناك قضايا أخرى ذات علاقة بالتصميم العام. فمثلاً، لا يمكن الوصول إلى مياه تبريد في الموقع المختار لإنشاء المحطّة، بل إنّ التصميم يقترح استخدام المياه العادمة المعالَجة من محطّة خربة الأسمر المجاورة. إنّ استخدام المياه العادمة كمبرّد أمرٌ لم يحدث سوى في محطّة طاقة نووية واحدة في العالم هي محطّة بالو فيرده (Palo Verde) في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن غير الواضح بعد مدى صلاحية هذه الطريقة وأيضا مدى ملاءمتها لحالة الأردن.
من القضايا الأخرى قضية حجم الشبكة حيث يصل الحد الأقصى للطلب في الأردن إلى حوالي 2600 ميجا واط. ففي حين تنصّ ارشادات الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن لا تزيد سعة المفاعل عن 10% من الحد الأدنى للطلب، فسيبقى المفاعل أكبر بعدّة مرّات من هذه القيمة الموصى بها، حتى ولو ازداد الطلب بشكلٍ جوهري في الوقت الذي يجهز فيه المفاعل. إنّ تبعات بناء مثل هكذا مفاعل كبير هي احتمالية عدم ثبات الشبكة وأيضًا المصاريف الإضافية في نظام "احتياطي الدوران" وهو النظام الاحتياطي المستخدَم لضمان استمرارية التزويد حين يتعطّل المفاعل.

قدرات الأردن
بات من الواضح أنّ على الأردن تعزيز إمكانياته النووية خاصة في جانب هيئة تنظيم السلامة، وأيضًا في جانب "العمليات والصيانة". ومن الجليّ أيضًا أهمية وجود جسم أو هيئة لتنظيم السلامة في الأردن بحيث تكون مؤهلة وموثوقة، وذلك لضمان كون التصميم المختار متماشيًا مع المقاييس المرغوبة، ولضمان تلبية أعمال البناء والإنشاء لمتطلبات مقاييس الجودة المطلوبة، ولضمان إجراء مهام العمليات والصيانة وفق أعلى المقاييس. ففي هذه الحالة لا يمكن للأردن أن يعوّل على المزودين وأصحاب/مشغّلي المفاعل لضمان الالتزام بجميع ما سبق.
أما بشأن العمليات والصيانة، فلن يكون بإمكان الأردن القيام بهذه المهام لوحده، وها هو يبحث عن هيئات أجنبية شريكة من أجل تقديم الخبرة وأيضًا للمشاركة في الحصص. لذلك، تنشأ شكوك جدّية حول ما إذا كان هناك أيّ هيئة ذات نفع عام أجنبية ستقبل بما يُنظر إليه على أنه  مغامرة اقتصادية خطرة.

الاقتصاد
بما أنّ الافتراض هو أن تلبّي محطّة الطاقة النووية جزءا كبيرًا من احتياجات الأردن الكهربائية، فمن الأهمية بمكان أن تكون الأسعار أسعارًا منافسة، هذا إذا ما أريدَ تحقيق متطلّب "الكهرباء اليسيرة". إن المحدّدات الرئيسة لتكلفة الكيلو واط ساعة من الكهرباء النووية هي التكاليف الثابتة المرتبطة بعملية البناء والإنشاءات، وهذه بدورها تُحدَّد وفق تكلفة البناء وتكلفة رأس المال ومتانة المحطّة. هذه التكاليف الثابتة يجب أن تُدفع بغض النظر عن مستوى إنتاج المحطّة، لذلك فإن المتانة مهمة جدًا إذا ما أرادوا أن يغطّوا أوسع منطقة ممكنة.
يصعب تقدير تكلفة البناء بشكل دقيق لأنّه، في السنوات العشرين الماضية، لم يتمّ بناء سوى عدد قليل من المفاعلات حديثة التصميم؛ بل إنّ عددًا أقلّ من ذلك موجود في دول يمكن الوثوق بدقّة احتساب التكلفة المعلنة فيها. فحين تمّ الترويج للجيل الأحدث من المحطات، وذلك قبل عقد من الزمن، فقد كان الوعد بأن هذه المحطّات ستكون أكثر أمانا. لكن لأنّ البساطة كانت ستميّز هذه التصاميم عن سابقاتها، فإن التكاليف ستكون أقل، والمنشأة أقل تعقيدا وبالتالي تقليص خطر التأخر في البناء. لقد كان الوعد بأن هكذا محطات ستُبنى بما لا يتجاوز الألف دولار لكل كيلو واط، أي أنّ مفاعلا بسعة ألف ميجا واط سيكلّف مليار دولار. لكن التقديرات الأخيرة الواردة من دول مثل الممكلة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية تقترب من سبعة آلاف دولار للكيلو واط. أما تبعات كارثة فوكوشيما، فلم تؤخذ بعد بالحسبان سواء في التصاميم أو في التكاليف، ما سيرفع بالضرورة مجمل التكلفة. هذه الزيادة الهائلة في التكلفة التقديرية – تاريخيًا، دائما ما كانت التكلفة التقديرية أقل من التكلفة الفعلية – ستواصل رفع منحنى تكلفة الطاقة النووية، وهو المنحنى الذي أعتُمِد طيلة الخمسين عاما من التاريخ التجاري للطاقة النووية. في مجال التكنولوجيا العادية، عادة ما تؤدي عوامل مثل "عوائد الحجم" و"التعلّم" والتطور التقني إلى انخفاض التكلفة الفعلية كلّما نضجت التكنولوجيا. لكن لا يوجد تفسير واضح لعدم انطباق هذا النموذج في مجال الطاقة النووية، كما لا يُتوَقّع أن يبدأ منحنى التكلفة بالاتجاه نزولا.
تاريخيا، لم يكن تمويل محطات الطاقة النووية في الغرب يشكّل عائقًا. فالمعهود هو أنّ مهما حصل من سوء في محطّة الطاقة النووية فإن المستهلكين سيدفعون فاتورة ذلك، وبالتالي، فإن بناء محطة طاقة نووية، من منظور أي هيئة ذات نفع عام، لا يحمل سوى خطر مالي قليل للهيئة وللبنوك التي تقرض المال. ما بات يعني أنّ إقراض المال لبناء محطّة طاقة نووية هو استثمار منخفض المجازفة، وبالتالي فتكلفة رأس المال منخفضة أيضًا.
لكن إذا وجد الخبراء الماليين أن الاستثمار النووي خطر، فإن تكلفة الاقتراض، وبالتالي التكاليف الثابتة الناجمة عن البناء، ستكون أعلى بكثير. فلم يعد واردًا وجود سوق كهرباء منافسة إذا لم تكن المولدات غير منافسة. ولم يعُد القائمون على تنظيم هذا القطاع يقبلون بتحميل التكلفة الإضافية على المستهلكين، الأمر الذي يعني أن التمويل بات عائقًا رئيسًا للاستثمار في الطاقة النووية في الغرب إذا ما غابت الضمانات بعدم تحميل التكلفة على المستهلكين. إذا لم تتوفر هذه الضمانات، فالبدائل هي ضمانات قرض سيادي وعقود محدّدة السعر. ففي حالة ضمانات القروض، فإنّ دافعي الضرائب في الدولة المزوّدة للمحطة هم من يضمنون القرض، بحيث إذا فشلت المغامرة فسيستردّ البنك أمواله من دافعي الضرائب هؤلاء. لكن ضمن المناخ الاقتصادي السائد اليوم، فالحكومات غير مستعدّة لأخذ مثل هذه المخاطرات، التي تُعدّ جزءا من الدين العام، بسبب النسبة العالية للتكاليف الضرورية لإقناع البنوك. إن العقود محدّدة السعر (أي المسماة "تسليم مفتاح") نادرة في مجال محطّات الطاقة النووية لأنه لا يوجد مؤسسة واحدة لديها ما يكفي من القدرة للتحكّم بالأسعار بحيث تستطيع أن تقدّم ضمانات واقعية. لقد بيعت محطة أولكيليوتو الفنلندية مثلا، بموجب عقد محدّد السعر، لكن حين ارتفعت التكاليف رفضت شركة أريفا الاعتراف بالعقد، وتخضع الآن مسؤلية الإيفاء بتكلفة إنجاز المشروع لنزاعات قضائية حادة. لكن، بغض النظر عن الصحيح والخطأ في هذه القضية، فإن البنوك ستجد فيها دليلا على أن عقود "تسليم مفتاح" هي عقود من الممكن أن  لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه.
في حالة الدول النامية، دائما ما يكون التمويل مشكلة كامنة، وذلك لسببين: التصنيف الائتماني لهذه الدول عادة ما يكون ضعيفًا؛ ولأن أسعار الكهرباء في هذه الدول عادة ما تُحدَّد سياسيًا وليس بناء على التكاليف. في حالة الأردن، والذي لا يمكنه على الأغلب تمويل محطّة طاقة نووية على نفقته الخاصة، تتعزّز الحاجة إلى شركاء أجانب يساهمون في الحصص ويجلبون التمويل والضمانات المالية. لكن من غير الواضح بتاتًا ما إذا كان هناك أي حكومة أجنبية مستعدة لعرض الحزمة التي تحتاجها الأردن من تزويد الأجهزة والتمويل والتدريب وعمليات تشغيل وصيانة المفاعل وسواها من الأمور.

تكلفة الفرصة البديلة
بسبب مختلف القضايا المثارة أعلاه، فالأغلب أن تفشل محاولات الأردن بناء محطّة طاقة نووية. هذا يعني أن كميّة هائلة من الأموال العامة الأردنية ستكون قد بُدّدت على مغامرة غير مجدية. لكن، التكلفة الأكثر أهمية هي "تكلفة الفرصة البديلة" والمتمثلة في عدم اتّباع خيارات أخرى بإمكانها تلبية حاجات الأردن؛ وأيضًا تكلفة الفرصة البديلة المتمثّلة في العلماء الموهوبين والمهندسين والتقنيين الذين لم يكونوا متواجدين لتطبيقات أخرى أكثر إنتاجية. لقد أضاع الأردن حتى الآن أربع سنوات في ملاحقة خيار واحد هو الطاقة النووية، وهو خيار غير مجدٍ، على الأغلب. لقد ضاعت هذه الأموال ولا يمكن استرجاعها، لكن الأولوية الآن هي في التخلّي عن الطموحات النووية، الآن، بحيث يمكن تحويل الموارد إلى خيارات أخرى تلبّي احتياجات الأردن من الكهرباء الموثوقة واليسيرة والمستدامة.